فصل: كِتَابُ الصُّلْحِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري ***


كِتَابُ الْكَفَالَةِ

الْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ الضَّمُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ أَيْ ضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ الْكَفَالَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا ضَمُّ إحْدَى الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمِّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ بَلْ أَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى حَالِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ‏(‏الْكَفَالَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ‏)‏ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْمَالِ فَإِنْ قِيلَ إذَا تَكَفَّلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إحْضَارِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ قُلْنَا أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ وَجَوَازُ الْكَفَالَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إمْكَانِ الْأَدَاءِ دُونَ اسْتِحْقَاقِهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَعَلَى الضَّامِنِ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ هُوَ الَّذِي لَزِمَ الْمَكْفُولَ بِهِ، وَقَدْ الْتَزَمَهُ الْكَفِيلُ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ ذَلِكَ فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْتُ بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ‏)‏ أَوْ بِوَجْهِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ قَوْلُهُ ‏(‏أَوْ بِنِصْفِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ‏)‏، وَكَذَا بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا أَضَافَ الْجُزْءَ إلَى الْكَفِيلِ بِأَنْ قَالَ الْكَفِيلُ كَفَلَ لَك نِصْفِي أَوْ ثُلُثِي فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْكَرْخِيِّ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الرَّهْنِ قَوْلُهُ ‏(‏وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ضَمِنْته لَك أَوْ هُوَ عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ أَوْ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ أَوْ كَفِيلٌ بِهِ أَوْ قَبِيلٌ بِهِ‏)‏ أَوْ أَنَا ضَامِنٌ بِوَجْهِهِ أَمَّا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ تَكَلَّفْتُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَفِيلٌ أَبَدًا إلَّا أَنْ يَقُولَ فَإِنْ مَضَتْ فَأَنَا بَرِيءٌ فَيَكُونُ الْأَمْرُ عَلَى مَا شَرَطَ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى مُحَاكَمَتِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ‏)‏ فَإِنْ كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ الْمَسَافَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ الْكَفِيلُ مَكَانَهُ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَكَانَهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ بِالنَّفْسِ نَفْسَهُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ حَتَّى إنَّهُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ أَمَّا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ الْأَمْرِ لَا يَبْرَأُ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ، وَلَوْ أَنَّ ثَلَاثَةً كُفِّلُوا بِنَفْسِ رَجُلٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً فَأَحْضَرَهُ أَحَدُهُمْ بَرِئُوا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُتَفَرِّقَةٌ لَمْ يَبْرَأْ الْبَاقُونَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ أَوْجَبَ إحْضَارًا عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ تَكَفَّلَ ثَلَاثَةٌ بِمَالٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمْ جَمِيعَ الْمَالِ بَرِئَ الْبَاقُونَ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا تَكَفَّلَ بِهِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ‏)‏ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي نَوَاحِي الْبَلَدِ الَّذِي ضَمِنَ لَهُ فِيهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهَا وَلَا عَلَى إحْضَارِهِ إلَى الْقَاضِي، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي الْوَادِي لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ بِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ

وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ قُلْنَا وَلَعَلَّ شُهُودَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ أَيْضًا فَتَعَارَضَتْ الْمُوهِمَاتُ، وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ، وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ لَمْ يَبْرَأْ‏)‏ لِعَجْزِهِ عَنْ إحْضَارِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى وَرَثَتِهِ فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى بَعْضِهِمْ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ لَهُ خَاصَّةً وَلِلْبَاقِينَ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِإِحْضَارِهِ فَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَلِوَصِيِّهِمْ أَنْ يُطَالِبَهُ بِإِحْضَارِهِ فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى أَحَدِ الْوَصِيِّينَ بَرِئَ فِي حَقِّهِ وَلِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَهُ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فِي وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ فِي الْوَقْتِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَالِ وَلَمْ يُبْرَأْ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ‏)‏ وَعَلَى هَذَا إذَا كَفَلَ لِامْرَأَةٍ بِنَفْسِ زَوْجِهَا فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ صَدَاقُهَا فَهُوَ جَائِزٌ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ إلَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فَإِذَا وَفَّى أَحَدَهُمَا بَقِيَ عَلَيْهِ الْآخَرُ وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ ضَمَانُ الْأَلْفِ قُلْنَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ‏)‏؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلتَّوَثُّقِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِدَرْءِ الْحُدُودِ وَتَرْكِ التَّوَثُّقِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ وَفِي الْهِدَايَةِ مَعْنَاهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَفِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَلِيقُ بِهِمَا الِاسْتِيثَاقُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ وَصُورَتُهُ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فِي قَذْفٍ فَأَنْكَرَهُ فَسَأَلَ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ لَازِمْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ قِيَامِي فَإِنْ أَحْضَرَ شُهُودَهُ قَبْلَ قِيَامِ الْقَاضِي وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَعِنْدَهُمَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقِيمَ لَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَالْكَفِيلُ إنَّمَا يَضْمَنُ الْإِحْضَارَ‏.‏

وَأَمَّا نَفْسُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ فَلَا يَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْكَفِيلِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ مَعْلُومًا كَانَ الْمَالُ الْمَكْفُولُ بِهِ أَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ أَوْ بِمَا لَكَ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك مِنْ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَيْعِ‏)‏؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَيَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ وَقَوْلُهُ إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَالْقَرْضِ وَالصَّدَاقِ وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِخِلَافِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ إزَالَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَالْكَفِيلُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالْأَدَاءِ قَوْلُهُ ‏(‏وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ كَفِيلَهُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهُ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا الضَّمُّ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ‏)‏ يَعْنِي إذَا كَانَ الشَّرْطُ سَبَبًا لَهُ وَمُلَائِمًا لَهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ مَا بَايَعْت فُلَانًا أَوْ دَايَنْته أَوْ مَا ثَبَتَ لَك عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ أَمَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنَا ضَامِنٌ لَك مَا لَكَ عَلَى فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ الشَّرْطُ‏.‏

وَأَمَّا الْمَالُ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ حَالًّا وَإِنْ تَكَفَّلَ إلَى أَجَلٍ إنْ كَانَ أَجَلًا مُعَيَّنًا يَتَعَارَفُهُ التُّجَّارُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ تَكَفَّلَ إلَى الْحَصَادِ أَوْ الدِّيَاسِ أَوْ الْقِطَافِ جَازَ، وَإِنْ قَالَ إلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ وَالتَّأْجِيلُ بَاطِلٌ وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا قَوْلُهُ ‏(‏مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَوْ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ‏)‏ أَيْ تَقَرَّرَ ‏(‏فَعَلَيَّ‏)‏ إنَّمَا قَالَ فُلَانًا لِيُعْلَمَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ مَا بَايَعَتْ مِنْ النَّاسِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَالْمَكْفُولِ بِهِ فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ كَذَا فِي شَاهَانْ، وَإِنْ قَالَ مَا ذَابَ لَك عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَهُوَ عَلَيَّ لَمْ تَصِحَّ لِجَهَالَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ مَا ذَابَ عَلَيْك لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَهُوَ عَلَيَّ لَمْ تَصِحَّ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ ضَمِنَهَا الْكَفِيلُ‏)‏ إنَّمَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَجْهُولِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ أَيْ كَفِيلٌ وَحِمْلُ الْبَعِيرِ مَجْهُولٌ قَدْ يَزِيدُ، وَقَدْ يَنْقُصُ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ الْمُلْتَزِمُ لَهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ إذْ هُوَ عِنْدَ أَمْرِهِ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَيْهِ‏)‏ هَذَا إذَا كَانَ الْآمِرُ مِمَّنْ يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالدُّيُونِ وَيَمْلِكُ التَّبَرُّعَ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ فَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ وَلَكِنْ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ اضْمَنْ لِفُلَانٍ عَنِّي بِأَلْفٍ لَهُ عَلَيَّ أَمَّا إذَا قَالَ اضْمَنْ الْأَلْفَ الَّذِي لِفُلَانٍ عَلَيَّ وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا،‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ حِرِّيفًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ حِرِّيفًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعًا اسْتِحْسَانًا وَالْخَلِيطُ هُوَ الَّذِي فِي عِيَالِهِ كَالْوَالِدِ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ مِنْ الْأُجَرَاءِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَقِيلَ الْخَلِيطُ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ وَيُدَايِنُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ الْمَالَ، وَلَوْ تَكَفَّلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ ثُمَّ أَدَّى لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ‏.‏

وَقَوْلُهُ رَجَعَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَيْهِ هَذَا إذَا أَدَّى مِثْلَ الدَّيْنِ الَّذِي ضَمِنَهُ قَدْرًا وَصِفَةً أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ لَا بِمَا أَدَّى كَمَا إذَا تَكَفَّلَ بِصِحَاحٍ أَوْ جِيَادٍ فَأَدَّى مُكَسَّرَةً أَوْ زُيُوفًا وَتَجَوَّزَ بِهَا الطَّالِبُ أَوْ أَعْطَاهُ دَنَانِيرَ أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ أَيْ بِالصِّحَاحِ وَالْجِيَادِ وَلَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛

لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْلِكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ كَفَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُؤَدِّي عَلَيْهِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ كَفَلَ لِلرَّجُلِ بِأَلْفٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَمَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِالْإِرْثِ وَمَلَكَهُ، وَإِنْ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَلَ بِأَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ الْمَالَ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ الطَّالِبُ الْمَالَ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَفَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى عَنْهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ كَذَا فِي شَرْحِهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ فِي حُكْمِ الْمُقْرِضِ وَمَنْ سَأَلَ رَجُلًا أَنْ يُقْرِضَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ‏)‏ يَعْنِي مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ‏.‏

وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي ذَلِكَ وَمَا لَحِقَهُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُعَامِلَهُ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ‏)‏ سَوَاءٌ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا ضَمِنَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَإِذَا أَدَّى مَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْء تَعُودُ الْكَفَالَةُ إلَيْهِ

وَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ الْبَرَاءَةَ فَإِنْ رَدَّهَا ارْتَدَّتْ وَهَلْ يَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ قَالَ بَعْضُهُمْ يَعُودُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَعُودُ، وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبُولِ يَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْقَبُولِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ بَرِئَ الْكَفِيلُ لَمْ يُبْرَأْ الْأَصِيلُ‏)‏، وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ كَفِيلِهِ، وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُؤَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَبَرَاءَةُ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ الْبَرَاءَةَ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوْ الرَّدِّ فَيَقُومَ ذَلِكَ مَقَامَ الْقَبُولِ، وَلَوْ رَدَّهُ ارْتَدَّ وَدُيِّنَ الطَّالِبُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ صَحَّ الْإِبْرَاءُ سَوَاءٌ قَبِلَ الْبَرَاءَةَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ الدَّيْنَ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فَإِذَا قَبِلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا إذَا أَدَّى، وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْت إلَيَّ صَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ قَالَ أَبْرَأْتُك بَرِئَ الْكَفِيلُ وَلَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ، وَإِنْ قَالَ بَرِئْت وَلَمْ يَقُلْ إلَيَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ كَقَوْلِهِ بَرِئْت إلَيَّ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جَمِيعًا وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ كَقَوْلِهِ أَبْرَأْتُك يَبْرَأُ الْكَفِيلُ خَاصَّةً دُونَ الْأَصِيلِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ‏)‏ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَسَائِرِ الْبَرَاءَاتِ وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ فَكَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ‏.‏

وَأَمَّا بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشُّرُوطِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ‏)‏ مَعْنَاهُ بِنَفْسِ الْحَدِّ لَا بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ عَلَيْهِ إذْ الْعُقُوبَةُ لَا تُجْزِي فِيهَا النِّيَابَةُ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ‏)‏؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ يَصِحَّ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَيْنٌ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الثَّمَنِ وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ إذْ هِيَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّمُّ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الدَّابَّةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فَلَا يَبْقَى ثَمَّةَ إجَازَةٌ يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ بِهَا وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ الضَّمَانُ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْحَمْلُ وَيُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ‏)‏، وَكَذَا الْحَوَالَةُ أَيْضًا، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ بَلْ إذَا بَلَغَهُ فَأَجَازَهُ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَشْتَرِطْ الْإِجَازَةَ عِنْدَهُ وَتَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا أَيْ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْإِيجَابُ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ فَوَقَفَ عَلَى رِضَاهُ وَقَبُولِهِ كَالْبَيْعِ‏.‏

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إيجَابُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِالْقَوْلِ فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ تَكَفَّلْت لِفُلَانٍ كُلَّ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِهِ فَيَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا قَالَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ عِنْدَهُ وَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ إذَا قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِرَجُلٍ إنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ فَاكْفُلْ لَهُ بِهِ عَنِّي أَوْ احْتَلْ لَهُ بِهِ، فَقَالَ كَفَلْت أَوْ ضَمِنْت أَوْ احْتَلْت ثُمَّ بَلَغَ الطَّالِبَ ذَلِكَ فَأَجَازَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ أَنَّ فُضُولِيًّا قَالَ ضَمِنْت مَا لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا فَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَإِذَا قَبِلَ مِنْ الْغَائِبِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا قَوْلُهُ ‏(‏إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَتَكَفَّلَ بِهِ مَعَ

غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ‏)‏ يَعْنِي إذَا أَجَازَ الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ يُقَالُ أَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ وَصَارَ كَأَنَّ الدَّيْنَ انْتَقَلَ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى التَّرِكَةِ فَصَارَ خِطَابُهُ كَخِطَابِ الْأَجْنَبِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُخَاطَبَ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّ الضَّمَانَ يَتَوَقَّفُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ الْآخَرِ‏)‏ كَمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا بِأَلْفٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ‏(‏فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَانِ نِصْفٌ مِنْ جِهَةِ الْمُدَايَنَةِ وَنِصْفٌ مِنْ جِهَةِ الْكَفَالَةِ فَإِذَا أَدَّى النِّصْفَ أَوْ أَقَلَّ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْمُدَايَنَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي الضَّمَانِ، وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا تَكَفَّلَ اثْنَانِ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا‏)‏ يَعْنِي إذَا تَكَفَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ تَكَفَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ أَيْضًا‏.‏

وَأَمَّا إذَا تَكَفَّلَا لَهُ بِأَلْفٍ مَعًا وَتَكَفَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَإِنَّهُ مِثْلُ مَسْأَلَةِ الْمُدَايَنَةِ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا أَدَّاهُ عَلَى النِّصْفِ فَإِذَا زَادَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الزِّيَادَةِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهَا أَوْ عَبْدٌ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْعَبْدِ إزَالَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَالْكَفِيلُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَمِنْ شَرْطِ الْكَفَالَةِ الِاتِّحَادُ بَيْنَ ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَإِنْ قُلْتُ إذَا لَمْ تَصِحَّ كَفَالَةُ الْحُرِّ لَا تَصِحُّ كَفَالَةٌ لِعَبْدٍ فَلِأَيِّ مَعْنًى ذَكَرَ الْعَبْدَ قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ أَشْرَفُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْكَفِيلُ تَبَعٌ لِلْأَصِيلِ فَرُبَّمَا يُقَالُ عَدَمُ الْجَوَازِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُرَّ يَصِيرُ تَبَعًا لَوْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ، فَقَالَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ لِدَفْعِ ذَلِكَ الظَّنِّ فَعَدَمُ صِحَّتِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ لَا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَبَعِيَّةِ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ كَذَا فِي الْمُشْكِلِ وَقَيَّدَ بِمَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ دَيْنٌ لِرَجُلٍ فَكَفَلَ بِهِ إنْسَانٌ عَنْهُ جَازَ وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا جَازَ الْعِتْقُ وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ وَبَقِيَ النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ أَيَّهمَا شَاءَ الْمُعْتَقُ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْأَصَالَةِ فَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أُعْتِقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعْتَقِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَكَفَّلَ عَنْهُ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ‏)‏ سَوَاءٌ كَانَ ابْنَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ دَفَعَ الْمَالَ ثُمَّ كَفَلَ عَنْهُ إنْسَانٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَا رُوِيَ ‏{‏أَنَّ رَجُلًا مَاتَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا نَعَمْ عَلَيْهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَقَالَ الْآنَ بَرَّدْتَ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ‏}‏ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَكَفَّلَ بِهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

كِتَابُ الْحَوَالَةِ

الْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ وَالنَّقْلِ وَهُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْوِيلِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَثُّقِ بِهِ وَيُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَسْمَاءٍ أَرْبَعَةٍ الْمُحِيلِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْأَصْلِيُّ وَالْمُحَالِ لَهُ وَهُوَ الطَّالِبُ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي قَبِلَ الْحَوَالَةَ وَالْمُحَالِ بِهِ وَهُوَ الْمَالُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ‏(‏الْحَوَالَةُ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ‏)‏ قَيَّدَ بِالدُّيُونِ احْتِرَازًا عَنْ الْأَعْيَانِ وَالْحُقُوقِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ بِهَا لَا تَصِحُّ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ هِيَ الَّتِي تَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فَكُلُّ دَيْنٍ لَا تَجُوزُ بِهِ الْكَفَالَةُ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَجُوزُ بِهِ وَلَا تَجُوزُ بِهِ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ احْتَلْ لِهَذَا عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَقُولُ احْتَلْت وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يَقُولَ احْتَلْ بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْك فَيَقُولُ احْتَلْت وَكِلَاهُمَا جَائِزَانِ وَفِي كِلَيْهِمَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ مِنْ دَيْنِ الْمُحَالِ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمُحِيلِ سَبِيلٌ إلَّا أَنْ يَتْوَى مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَكِنْ بَيْنَ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً انْقَطَعَتْ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ‏.‏

فَإِنْ بَطَلَ الدَّيْنُ فِي الْمُقَيَّدَةِ أَوْ تَبَيَّنَ بَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا بِأَلْفٍ وَلَمْ يُؤَدِّ الْأَلْفَ حَتَّى أَحَالَ بِهَا لِرَجُلٍ عَلَيْهِ فَقَبِلَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَظَهَرَ حُرًّا فَإِنَّ الْحَوَالَةَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَبْطُلُ وَكَانَ لِلْمُحَالِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى

الْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ، وَكَذَا لَوْ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ عِنْدَ الْمُودَعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُحَالِ لَهُ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْطُلُ‏.‏

وَأَمَّا إذَا سَقَطَ الدَّيْنُ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بِأَمْرٍ عَارِضٍ وَلَمْ تَتَبَيَّنْ بَرَاءَتُهُ مِنْ الْأَصِيلِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ مِثْلُ أَنْ يَحْتَالَ بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْهُ وَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَكِنَّهُ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا تَنْقَطِعُ فِيهَا مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ فَإِذَا أَدَّى سَقَطَ مَا عَلَيْهِ قِصَاصًا، وَلَوْ تَبَيَّنَ بَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ لَا تَبْطُلُ أَيْضًا، وَلَوْ أَنَّ الْمُحَالَ لَهُ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ سَوَاءٌ قَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إسْقَاطٌ وَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا لَوْ أَدَّى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْهِبَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ‏.‏

وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ لَهُ وَوَرِثَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِرْثِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ رَضِيَ الْمُحَالُ لَهُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدُونِ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَاقِي نَحْوَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَاقِي فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ الْمُحِيلِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَمَا إذَا صَالَحَ عَلَى الدَّرَاهِمِ عَنْ الدَّنَانِيرِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ عَلَى الْعُرُوضِ فَإِنَّهُ

يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الدَّيْنِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَيَصِحُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ‏)‏ أَمَّا الْمُحَالُ لَهُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ‏.‏

وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ، وَكَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ رَضِيَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَأَمْرُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنَّ لَك عَلَى فُلَانٍ كَذَا مِنْ الدَّيْنِ فَاحْتَلْ بِهِ عَلَيَّ وَرَضِيَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الدَّيْنِ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ فَإِنْ أَدَّى الْمَالَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ‏)‏ بِالْقَبُولِ‏.‏

وَقَالَ زُفَرُ لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلَ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ مِنْ ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِيهَا أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الْحَوَالَةُ مُبْرِئَةٌ وَالْكَفَالَةُ غَيْرُ مُبْرِئَةٍ وَيَكُونُ الطَّالِبُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلَ أَوْ الْكَفِيلَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ حَوَالَةً‏.‏

وَقَالَ زُفَرُ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ سَوَاءٌ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُبْرِئَةٍ‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ كِلَاهُمَا مُبْرِئَةٌ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ وَاحِدٍ فَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ لَصَارَ حَقَّيْنِ قُلْنَا الْحَوَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ وَالْحَقُّ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ تَبْقَى ذِمَّةُ الْأَوَّلِ فَارِغَةً؛ لِأَنَّك إذَا حَوَّلْت الشَّيْءَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَقِيَ مَكَانُ الْأَوَّلِ فَارِغًا وَالْكَفَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكَفِيلِ وَهُوَ الضَّمُّ وَضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ لَا يُوجِبُ فَرَاغَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ‏)‏ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَرْجِعُ، وَإِنْ تَوَى قَوْلُهُ ‏(‏وَالْتَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا‏)‏ أَيْ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ‏.‏

وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحِيلِ وَلَا لِلْمُحَالِ لَهُ وَقَوْلُهُ أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا أَيْ لَمْ يَتْرُكْ عَيْنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ لَهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا، وَقَالَ الْمُحِيلُ خِلَافَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَفِي غَيْرِ الْمَبْسُوطِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ ‏(‏وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ‏)‏ هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ صَحِيحٌ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِفْلَاسُ بِحُكْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ رِزْقَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا طَالَبَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ، فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ‏)‏؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏، وَإِنْ طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ، وَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي، وَقَالَ الْمُحْتَالُ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مَعَ يَمِينِهِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْأَلْفَ الْمَقْبُوضَةَ وَلَا يُصَدَّقُ الْمُحْتَالُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحِيلُهُ لِيَسْتَوْفِيَ لَهُ الْمَالَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهُوَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ أَمْنَ خَطَرِ الطَّرِيقِ‏)‏ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحَوَالَةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ هِيَ النَّقْلُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقَلَ حَالَةَ التَّوَى مِنْ مَالِهِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْرِضْ لَكَانَ التَّوَى فِي مَالِهِ فَبِالْقَرْضِ يُحِيلُ التَّوَى إلَى مَالِ الْمُسْتَقْرِضِ كَذَا فِي الْمُشْكِلِ وَالسَّفَاتِجُ جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ الْوَرَقَةُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ التَّاجِرُ أَقْرَضْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِشَرْطِ أَنْ تَكْتُبَ لِي كِتَابًا إلَى وَكِيلِك بِبَلَدِ كَذَا فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا إذَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَسَأَلَهُ ذَلِكَ فَفَعَلَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ أَمْنُ خَطَرِ الطَّرِيقِ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِالْقَرْضِ، وَقَدْ ‏{‏نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً‏}‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

كِتَابُ الصُّلْحِ

هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُصَالَحَةِ وَهِيَ الْمُسَالَمَةُ بَعْدَ الْمُخَالَفَةِ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ وُضِعَ بَيْنَ الْمُتَصَالِحِينَ لِدَفْعِ الْمُنَازَعَةِ بِالتَّرَاضِي يُحْمَلُ عَلَى عُقُودِ التَّصَرُّفَاتِ وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْمَوْضُوعَانِ لِلصُّلْحِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مَالًا أَوْ حَقًّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَالْقِصَاصِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَقًّا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ‏{‏فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ‏{‏الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا‏}‏ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدِّدُوا الْخُصُومَ لِكَيْ يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ‏{‏إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا‏}‏ هُوَ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَقَوْلُهُ ‏{‏أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا‏}‏ وَهُوَ الصُّلْحُ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَسْتَخْدِمَهُ‏.‏

وَفِي الْهِدَايَةِ الْحَرَامُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْحَرَامُ لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ وَالْحَلَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْحَلَالُ لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ‏.‏

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ‏(‏الصُّلْحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ صُلْحٌ مَعَ إقْرَارٍ وَصُلْحٌ مَعَ سُكُوتٍ وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُ وَصُلْحٌ مَعَ إنْكَارٍ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ‏)‏ أَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا مَعَ السُّكُوتِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ السَّاكِتَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا فَإِذَا صَالَحَ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ‏.‏

وَأَمَّا مَعَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ الدَّعْوَى وَالْمُخَاصَمَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ‏)‏ لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا فَتَجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا كَانَ عَقَارًا وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطُ وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ وَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الصُّلْحُ عَلَى عَيْنِ مَا يَدَّعِيهِ قَبْضٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَعَلَى غَيْرِ مَا يَدَّعِيهِ بَيْعٌ وَشِرَاءٌ وَعَلَى أَقَلَّ مِمَّا يَدَّعِيهِ حَطٌّ وَإِبْرَاءٌ وَعَلَى أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِيهِ فَضْلٌ وَرِبَا ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى شَيْءٍ مَجْهُولٍ عَنْ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ لَا يَصِحُّ وَعَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ عَنْ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ يَصِحُّ وَقَوْلُهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَبَدَلُ الصُّلْحِ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ اُعْتُبِرَ بِالْإِجَارَاتِ‏)‏ لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فَيُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِيهَا وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الِانْتِفَاعِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ رَجَعَ

الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ انْتَفَعَ بِنِصْفِ الْمُدَّةِ أَوْ ثُلُثِهَا بَطَلَ مِنْ دَعْوَاهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَرَجَعَ عَلَى دَعْوَاهُ فِيمَا بَقِيَ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ جَعَلَهُ كَالْإِجَارَةِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الصُّلْحُ مُخَالِفٌ لِلْإِجَارَةِ فَإِذَا مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَوْفِيَ الذِّمَّةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمُدَّعِي لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَيَبْطُلُ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَلَا يَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنْظُومَةِ فِي مَقَالَاتِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ هَلَاكُ رَبِّ الْعَيْنِ غَيْرُ قَاطِعٍ كَذَاك مَوْتُ الْمُدَّعِي فِي الدَّارِ وَالْعَبْدِ لَا فِي الثَّوْبِ وَالْحِمَارِ، وَإِنْ هَلَكَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ أَوْ اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الصُّلْحُ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ ‏(‏وَالصُّلْحُ عَنْ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُدَّعَى عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ الْمَدْفُوعُ عِوَضًا عَنْهُ، وَقَدْ لَزِمَتْهُ الْخُصُومَةُ فَجَازَ لَهُ الِافْتِدَاءُ مِنْهَا‏.‏

وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الَّذِي ادَّعَاهُ حَقٌّ وَأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ عِوَضُ حَقِّهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا صَالَحَ عَنْ دَارٍ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ‏)‏ يَعْنِي إذَا كَانَ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَصُورَتُهُ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَأَنْكَرَ أَوْ سَكَتَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ لَمْ تَجِبْ فِيهَا شُفْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِالصُّلْحِ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الْعِوَضَ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَلَهُ ذَلِكَ وَزَعْمُ الْمُدَّعِي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ بِالدَّارِ عَيْبٌ لَا يَرْجِعُ بِأَرْشِهِ وَلَا يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا مِنْ جِهَتِهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا صَالَحَ عَلَى دَارٍ وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي يَأْخُذُهَا عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ وَمَنْ مَلَكَ دَارًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْحَقِّ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ أَخَذَهَا عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْأُخْرَى‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ فَاسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ رَجَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْعِوَضِ‏)‏؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَنْ إقْرَارٍ كَانَ مُعَاوَضَةً كَالْبَيْعِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ وَقَعَ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ فَاسْتُحِقَّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ‏)‏ أَيْ مَعَ الْمُسْتَحَقِّ ‏(‏وَرَدَّ الْعِوَضَ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا بَدَّلَ الْعِوَضَ إلَّا لِدَفْعِ خُصُومَتِهِ عَنْهُ فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ لَهُ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ غَيْرِ شَيْءٍ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ ذَلِكَ رَدَّ حِصَّتَهُ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ‏)‏ أَيْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ لَمْ يُبَيِّنْهُ فَصُولِحَ عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الدَّارِ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْ الْعِوَضِ‏)‏؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَقِيَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْرَى الْعِوَضُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ فَيَرْجِعُ بِكُلِّهِ وَقَوْلُهُ حَقًّا فِي دَارٍ يَعْنِي حَقًّا فِي عَيْنِ الدَّارِ لَا حَقًّا لَهُ بِسَبَبِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الشُّفْعَةِ لَا يَجُوزُ وَقَوْلُهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ أَيْ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَلَا إلَى جَانِبٍ مَعْلُومٍ كَالشَّرْقِيِّ أَوْ الْغَرْبِيِّ أَوْ الْقِبْلِيِّ فَإِنْ نَسَبَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الدَّارِ نُظِرَ إنْ بَقِيَ مِنْ الدَّارِ مِقْدَارُ الْمُشَاعِ أَوْ أَكْثَرُ فَلَا رُجُوعَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِوَضِ، وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْهُ قُسِّمَ الْعِوَضُ عَلَى جَمِيعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَمَا أَصَابَ الْمُسْتَحَقَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ وَقَوْلُهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِيهِ إشَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمَجْهُولِ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَالصُّلْحُ جَائِزٌ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ‏)‏ صُورَةُ دَعْوَى الْمَنَافِعِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْوَرَثَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ هَذَا الْعَبْدِ وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى اسْتِئْجَارَ عَيْنٍ وَالْمَالِكُ يُنْكِرُ ثُمَّ تَصَالَحَا لَمْ يَجُزْ كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى قَوْلُهُ ‏(‏وَجِنَايَةُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ‏)‏ إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ بِهَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ فَصَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ مُبَادَلَةً بِخِلَافِ الصُّلْحِ ابْتِدَاءً قَالَ فِي الْكَرْخِيِّ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ مِائَةَ بَعِيرٍ فَصَالَحَ الْقَاتِلُ الْوَلِيَّ عَنْ الْمِائَةِ الْبَعِيرِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَهِيَ عِنْدَهُ وَدَفَعَ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي عَيَّنَ الْوُجُوبَ فِي الْإِبِلِ فَإِذَا صَالَحَ عَلَى الْبَقَرِ فَالْبَقَرُ الْآنَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ وَبَيْعُ الْإِبِلِ بِالْبَقَرِ جَائِزٌ، وَإِنْ صَالَحَ عَنْ الْإِبِلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا صَالَحَ عَنْهَا بِكَيْلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ عَاوَضَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ صَالَحَ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى مِثْلِ قِيمَةِ الْإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ بِمَا يُتَغَابَنُ فِيهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ

غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُتَغَابَنُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَجُوزُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا يَجُوزُ فِي دَعْوَى حَدٍّ‏)‏؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ لَا حَقُّهُ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ نَسَبَ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْوَلَدِ لَا حَقُّهَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ فِي سَرِقَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ زِنًا أَمَّا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ فَلِأَنَّ الْحَدَّ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا خِلَافٍ‏.‏

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ أَيْضًا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْقَاضِي لَا يَجِبُ بَدَلُ الصُّلْحِ وَيَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ الدَّعْوَى، وَإِنْ صَالَحَ فِيهِ بَعْدَ التَّرَافُعِ لَا يَجِبُ الْبَدَلُ وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ كَذَا فِي الْمُشْكِلِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ لَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ وَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ‏)‏؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهَا، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَوْلُهُ جَازَ يَعْنِي فِي الْقَضَاءِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا كَانَ كَاذِبًا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ نِكَاحًا عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا لَمْ يَجُزْ‏)‏؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهَا الْمَالَ لِتَرْكِ الدَّعْوَى فَإِنْ جُعِلَ تَرْكُ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَالزَّوْجُ لَا يُعْطَى الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فُرْقَةً فَلَا شَيْءَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا فَلَا يَصِحُّ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَجُوزُ وَيُجْعَلُ الْمَالُ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ جَازَ‏)‏ يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ قَوْلُهُ ‏(‏وَكَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي مَعْنَى الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ‏)‏؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الرِّقِّ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَفِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ الْخُصُومَةَ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَيُقْبَلُ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ عَقْدُ الصُّلْحِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ إلَخْ‏)‏؛ لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا ‏(‏وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ‏)‏، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ أَوْ ادَّعَى عَيْنًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ جَازَ وَيُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَقَوْلُهُ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ يَعْنِي أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الصُّلْحَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُدَايَنَةُ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُدَايَنَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْغَصْبِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ قَوْلُهُ ‏(‏كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ حَقِّهِ‏)‏ وَقَبْضُ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ حَطَطْت عَنْك خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي خَمْسَمِائَةٍ فَالْحَطُّ جَائِزٌ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْقَدْرِ وَلَكِنَّهُ أَزْيَدُ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفٌ نَبَهْرَجَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُعَاوَضَةَ الْجَوْدَةِ بِمَا حَطَّ فَيَكُونُ اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ جَازَ الصُّلْحُ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ، وَقَدْ أَخَذَ مِثْلَ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَنْ أَجَّلَ دِينَهُ الْحَالَّ

وَلِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ‏)‏؛ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى التَّأْخِيرِ وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى الْمُعَاوَضَةِ وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَكَذَا لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ لَمْ يَجُزْ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَيَكُونُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّ عَنْهُ وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ، فَقَالَ مَتَى أَدَّيْتَ إلَى خَمْسِمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ فَأَبَى الطَّالِبُ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ‏:‏ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَبْرَأُ مِمَّا بَقِيَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطٍ وَبَرَاءَةُ صَاحِبِ الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَذَا فِي الْكَرْخِيِّ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِزَوْجِهَا فِي مَهْرِهَا وَالرَّجُلُ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِمُكَاتَبِهِ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ مُكَاتَبَتِك ثُمَّ أَبَى أَنْ يَفِيَ بَعْدَمَا أَدَّى فَذَلِكَ لَهُ وَلَا تَجُوزُ الْبَرَاءَةُ‏.‏

وَفِي الْهِدَايَةِ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ، فَقَالَ لَهُ أَدِّ إلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ فَهُوَ بَرِيءٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا عَادَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى وَهِيَ لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَجَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا فَلَا يَعُودُ كَمَا لَوْ بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لَهُ حَذَارِ إفْلَاسِهِ أَوْ تَوَسُّلًا إلَى تِجَارَةٍ أَرْبَحَ مِنْهُ وَكَلِمَةُ عَلَى وَإِنْ كَانَتْ

لِلْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلشَّرْطِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا بَدَأَ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا فَالْإِبْرَاءُ فِيهِ وَاقِعٌ أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعْطِ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ أَوَّلًا وَأَدَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا مُطْلَقًا وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ‏)‏؛ لِأَنَّ الْبِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَهِيَ زَائِدَةٌ وَصْفًا فَتَكُونُ مُعَاوَضَةُ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ سُودٍ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْأَلْفِ الْبِيضِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ سُودٍ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ كُلِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ نَبَهْرَجَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ جَازَ وَيَكُونُ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ فَيَكُونُ صَرْفًا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا لِيُصَالِحَ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ‏)‏ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا عَنْ الْمُوَكِّلِ أَوْ مُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ أَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ نَحْوَهُمَا فَوَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ عَلَى مَالٍ فَإِنَّ الْمَالَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ هُنَا عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَجُعِلَ الْأَمْرُ بِالصُّلْحِ أَمْرًا بِالضَّمَانِ، وَكَذَا إذَا أَمَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِأَنْ يُخَالِعَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَفَعَلَ يَعُودُ عَلَيْهَا وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُلْعِ أَمْرًا بِالضَّمَانِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ فُضُولِيًّا لَوْ قَالَ لِلزَّوْجِ اخْلَعْ امْرَأَتَك عَلَى مِائَةٍ مِنْ مَالِي فَخَلَعَهَا جَازَ فَلَمَّا كَانَ يَجُوزُ فَفَائِدَةُ أَمْرِهَا الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِالضَّمَانِ، وَكَذَا الْأَمْرُ بِالصُّلْحِ أَمْرٌ بِالضَّمَانِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالنِّكَاحُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّجُلِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَفَائِدَةُ أَمْرِهِ جَوَازُ النِّكَاحِ لَا ثُبُوتُ الرُّجُوعِ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصَّرْفِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ صَالَحَ بِمَالٍ وَضَمِنَهُ تَمَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ الْمَالُ‏)‏ يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَقُولَ صَالِحْنِي مِنْ دَعْوَاك مَعَ فُلَانٍ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ بِهَا أَوْ قَالَ بِأَلْفٍ مِنْ مَالِي أَوْ بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ فَإِذَا فَعَلَ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا لَهُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفِي هَذِهِ أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا تَمَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ، وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ قَوْلُهُ ‏(‏وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ وَسَلَّمَهَا‏)‏، وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْعِوَضِ لَهُ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ وَسَكَتَ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ وَلَزِمَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ‏)‏، وَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ، وَإِنَّمَا وَقَفَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ تَبَرَّعَ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَطْلُوبُ لَزِمَهُ الْمَالُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ وَذَكَرَ الْخُجَنْدِيُّ وَجْهًا خَامِسًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالِحْنِي مِنْ دَعْوَاك عَلَى فُلَانٍ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ فَيَجُوزُ وَبَدَلُ الصُّلْحِ عَلَى الْمُصَالِحِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَيَرْجِعُ الْمُصَالِحُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالَحْتُك عَلَى هَذَا

الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهُ لِلتَّسْلِيمِ صَارَ شَارِطًا سَلَامَتَهُ فَيَتِمُّ بِقَبُولِهِ فَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا سِوَاهُ فَإِنْ سَلِمَ الْمَحَلُّ تَمَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَبِعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِنِصْفِهِ‏)‏ الْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا كَانَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَمَتَى قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا قَسَّمْنَا الدَّيْنَ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُمَيِّزُ الْحُقُوقَ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِيمَا فِي الذِّمَّةِ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ صَارَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْحَقَّيْنِ وَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَوْرُوثِ بَيْنَهُمَا وَقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشْتَرَكِ فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا نَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ قَبَضَ نَصِيبَهُ لَكِنْ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ‏)‏؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ قَوْلُهُ ‏(‏إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ‏)‏؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ نِصْفَ الثَّوْبِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى غَرِيمِهِ فَتَوَى الْمَالُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكًا فَإِنْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ كَذَا فِي شَرْحِهِ‏.‏

وَفِي الْهِدَايَةِ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُؤَجَّلًا وَنَصِيبَ الْآخَرِ مُعَجَّلًا فَيَتَمَيَّزُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي تَأْخِيرِ أَحَدِهِمَا لِنَصِيبِهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَصَارَ كَالْبَرَاءَةِ وَالْهِبَةِ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَ ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْغَرِيمِ بِالْبَاقِي‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ صَارَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ مِنْ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ سِلْعَةً كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ كَمُلًا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالْحَطِيطَةِ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ دَفْعَ رُبُعِ الدَّيْنِ فِي الصُّلْحِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَخَيَّرُ الْقَابِضُ فِي الصُّلْحِ وَقَوْلُهُ ‏(‏كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ‏)‏ هَذَا إذَا كَانَ ثَمَنُ السِّلْعَةِ مِثْلَ نِصْفِ الدَّيْنِ وَلَا سَبِيلَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَّبِعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّتِهِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ وَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا‏)‏ ‏(‏كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ‏)‏ أَيْ الْمُسْلَمُ فِيهِ ‏(‏فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ‏)‏ ‏(‏لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ الصُّلْحُ‏)‏ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ وَبِمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَكُونُ قَسْمُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا لَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ عَلَى شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي نُسْخَةٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي نُسْخَةٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ عَنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَوْ كَثِيرًا‏)‏؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا وَفِيهِ أَثَرُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ صَالَحَ تُمَاضِرَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ رُبُعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ ذَهَبًا فَأَعْطَوْهُ فِضَّةً فَهُوَ جَائِزٌ‏)‏ وَيُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّرْفِ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْمِيرَاثِ‏)‏ احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ بَدَلُ الصَّرْفِ عَرْضًا جَازَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الرِّبَا وَقَوْلُهُ ‏(‏فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ‏)‏ إنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى مِثْلِ نَصِيبِهِ أَوْ أَقَلَّ حَالَ التَّصَادُقِ أَمَّا إذَا كَانُوا جَاحِدِينَ أَنَّهَا امْرَأَةُ الْمَيِّتِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْطَى إنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ لَا لِلْمُعَاوَضَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَهَبًا فَصَالَحُوا عَنْهُ بِذَهَبٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَازَ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْمُصَالِحَ عَنْهُ وَيَكُونَ الدَّيْنُ لَهُمْ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ‏)‏ الْمُصَالِحُ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ رَاجِعٌ إلَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ وَقَوْلُهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ أَيْ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ شَرَطُوا

أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ‏)‏؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ أَوْ هُوَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهَذِهِ حِيلَةُ الْجَوَازِ وَحِيلَةٌ أُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مُتَبَرِّعِينَ وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِهِمْ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوهُ عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ وَيُحِيلُهُمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ‏.‏

كِتَابُ الْهِبَةِ

الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ التَّبَرُّعُ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ‏{‏فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا‏}‏ أَيْ هَنِيئًا لَا إثْمَ فِيهِ مَرِيئًا لَا مَلَامَةَ فِيهِ وَقِيلَ الْهَنِيءُ الطَّيِّبُ الْمَسَاغِ الَّذِي لَا يُنَغِّصُهُ شَيْءٌ وَالْمَرِيءُ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَلَا يُؤْذِي وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ‏{‏تَهَادَوْا تَحَابُّوا‏}‏ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ‏(‏الْهِبَةُ تَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ‏)‏ إنَّمَا قَالَ تَصِحُّ وَفِي الْبَيْعِ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمَوْهُوبُ لَهُ حَنِثَ أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَا يَحْنَثُ فَلِهَذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ يَنْعَقِدُ فِي الْبَيْعِ قَوْلُهُ ‏(‏وَتَتِمُّ بِالْقَبْضِ‏)‏ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ قَالَ فِي الْيَنَابِيعِ الْقَبْضُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ حَتَّى إنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ وَهَبْت لَك عَبْدِي هَذَا وَالْعَبْدُ حَاضِرٌ فَقَبَضَهُ جَازَ إنْ لَمْ يَقُلْ قَبِلْت، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا، فَقَالَ وَهَبْته مِنْك فَاذْهَبْ فَاقْبِضْهُ وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْت فَذَهَبَ وَقَبَضَهُ جَازَ، وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْغَرِيمِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ‏.‏

وَقَالَ زُفَرُ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ فَإِنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ دَيْنًا عَلَى آخَرَ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْهُ فَقَبَضَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَفِي شَرْحِهِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَوَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ

مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ إسْقَاطٌ لَهُ وَبَرَاءَةٌ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ عَيْنٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُجِيبًا لَهُ لَا أَقْبَلُهَا فَالدَّيْنُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِلْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِالْهِبَةِ حَتَّى مَاتَ جَازَتْ الْهِبَةُ وَبَرِئَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَنْفَرِدُ بِالْوَاحِدِ فَتَتِمُّ بِالْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِالرَّدِّ، وَقَدْ فَاتَ الرَّدُّ فَبَقِيَتْ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ قَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاهِبِ جَازَ‏)‏، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمُوجِبِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فَكَذَا الْهِبَةُ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ‏)‏ أَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا قَبَضَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ قَبِلَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فَالْإِذْنُ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيطُ يَبْقَى بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَالتَّوْكِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَوْجُودًا فِي الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ قَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهُ فَاقْبِضْ وَانْصَرَفَ الْوَاهِبُ وَقَبَضَهُ بَعْدَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ لَا يَبْطُلُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى عَزَلَهُ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلِأَنَّ بِمَوْتِهِ زَالَ مِلْكُهُ وَفَاتَ تَسْلِيطُهُ كَالْمُوَكِّلِ‏.‏

وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا عَنْهُ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّ الْهِبَةَ مَا لَمْ تُقْبَضْ فَهِيَ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ رَجَعَ فِيهَا قَبْلَ قَبْضِهَا صَحَّ رُجُوعُهُ، وَلَوْ وَهَبَ لِلْعَبْدِ هِبَةً فَالْقَبُولُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمَوْلَى لَهُ وَلَا قَبْضُهُ لَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَكُونُ هَذَا كَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْعَبْدِ لَا يَسْتَقِرُّ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ، وَلَوْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْهِبَةَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْلَى صَحَّتْ، وَلَوْ رَدَّهَا الْعَبْدُ وَقَبِلَهَا الْمَوْلَى لَمْ تَصِحَّ وَلَا يَجُوزُ

قَبْضُ الْمَوْلَى وَلَا قَبُولُهُ لِمَا وُهِبَ لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْتُك وَنَحَلْتُك وَأَعْطَيْتُك وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلَتْ هَذَا الشَّيْءَ لَك‏)‏ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْإِطْعَامُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ قَوْلُهُ ‏(‏وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ‏)‏، وَإِنْ نَوَى الْعَارِيَّةَ كَانَتْ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُهُمَا، وَإِنْ قَالَ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كَانَ هِبَةً؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏، وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً قَالَ فِي الْكَرْخِيِّ إذَا مَنَحَهُ بَعِيرًا أَوْ شَاةً أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَارًا فَهِيَ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ مَنَحَهُ طَعَامًا أَوْ لَبَنًا أَوْ دَرَاهِمَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا هِبَةٌ وَالْأُخْرَى قَرْضٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِلسُّكْنَى أَوْ لِلُّبْسِ أَوْ لِلرُّكُوبِ فَهُوَ عَارِيَّةٌ وَكُلُّ مَا لَا يُنْتَفَعُ إلَّا بِأَكْلِهِ أَوْ اسْتِهْلَاكِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً‏)‏، وَكَذَا الصَّدَقَةُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ يَعْنِي إذَا وُهِبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا تَجُوزُ أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا وَقَعَتْ جَائِزَةً لَكِنْ غَيْرَ مُثْبِتَةٍ لِلْمِلْكِ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا مَحُوزَةً فَإِنَّهُ لَوْ قَسَّمَهَا وَسَلَّمَهَا مَقْسُومَةً صَحَّتْ قَوْلُهُ ‏(‏وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِي مَا لَا يُقْسَمُ جَائِزَةٌ‏)‏ كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْهِبَةِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَوْ رَهَنَ مُشَاعًا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَمَنْ وُهِبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ‏)‏ اعْلَمْ أَنَّهُ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا وَالثَّانِي الشُّيُوعُ الْمُفْسِدُ هَلْ هُوَ الْمُقَارِنُ أَوْ الطَّارِئُ وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْعِبْرَةِ فِي الشُّيُوعِ هَلْ هُوَ لِوَقْتِ الْقَبْضِ أَوْ لِوَقْتِ الْهِبَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ إذَا وُهِبَ لَهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ أَوْ نِصْفَ مِثْقَالٍ صَحِيحٍ يَجُوزُ هُوَ الصَّحِيحُ وَجُعِلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَهُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُفْسِدُ هُوَ الشُّيُوعُ الْمُقَارِنُ دُونَ الطَّارِئِ حَتَّى إنَّ مَنْ وَهَبَ هِبَةً ثُمَّ رَجَعَ فِي بَعْضِهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا كَذَا فِي شَاهَانْ‏.‏

وَفِي الْيَنَابِيعِ إذَا وَهَبَ لَهُ دَارًا فَقَبَضَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الشُّيُوعِ لِوَقْتِ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ لَهُ نِصْفَ دَارٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى وَهَبَ لَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ جَازَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ‏{‏لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً‏}‏ فَيُشْتَرَطُ كَمَالُ الْقَبْضِ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ الْقِسْمَةُ‏.‏

وَقَوْلُهُ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فَلَوْ أَنَّهُ وَهَبَ مُشَاعًا فِيمَا يُقْسَمُ وَسَلَّمَهُ عَلَى الْفَسَادِ هَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَيَقَعُ مَضْمُونًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَمْ لَا‏؟‏ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ‏)‏؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ، وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ

الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَالْقَبْضُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ حِينَئِذٍ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا مِثْلُ أَنْ يَهَبَ ثَمَرًا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ فَإِنْ مَيَّزَهُ وَفَصَلَهُ وَأَقْبَضَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فَإِنْ فَصَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْأَشْجَارَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ، وَلَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعٌ لِلْوَاهِبِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِ أَوْ سَلَّمَهَا مَعَ الْمَتَاعِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ وَالْفَرَاغُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُودِعَ الْمَتَاعَ أَوَّلًا عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثُمَّ يُسَلِّمَ الدَّارَ إلَيْهِ فَيَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هُوَ فِي يَدِهِ وَبِعَكْسِهِ لَوْ وَهَبَ الْمَتَاعَ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ الدَّارَ وَالْمَتَاعَ جَمِيعًا وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ فَالْهِبَةُ فِيهَا لَا تَصِحُّ وَفِي الْمَتَاعِ تَصِحُّ، وَإِنْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الدَّارَ وَقْتَ تَسْلِيمِهَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا يَمْنَعُ الْقَبْضَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ فَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ بِخِلَافِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ وَبَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَذَا هِبَتُهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَهِبَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فِي الْأَرْضِ وَالثَّمَرِ فِي النَّخْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ فَإِنْ أَذِنَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْقَطْعِ وَالْقَبْضِ جَازَ وَجَعَلَ فِي الْكَرْخِيِّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ قَالَ فِيهِ، وَلَوْ وَهَبَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هِبَةُ الْمُشَاعِ إذَا قُسِّمَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا‏)‏؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضِهِ وَالْقَبْضُ هُوَ الشَّرْطُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَجَانَسَ الْقَبْضَانِ نَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَإِذَا اخْتَلَفَا نَابَ الْمَضْمُونُ عَنْ غَيْرِ الْمَضْمُونِ وَلَا يَنُوبُ غَيْرُ الْمَضْمُونِ عَنْ الْمَضْمُونِ بَيَانُهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مَغْصُوبًا فِي يَدِهِ أَوْ مَقْبُوضًا بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ بَيْعًا صَحِيحًا جَازَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ لِاتِّفَاقِ الْقَبْضَيْنِ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً فَوَهَبَهُ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ لِاتِّفَاقِهِمَا؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا أَمَانَةٌ، وَلَوْ كَانَ مَغْصُوبًا فِي يَدِهِ أَوْ مَقْبُوضًا بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَوَهَبَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً فَبَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ الْمَضْمُونِ وَقَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا يَعْنِي إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً أَوْ مَغْصُوبَةً أَوْ مَقْبُوضَةً بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَمَّا إذَا كَانَتْ رَهْنًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ‏)‏؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودَعِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ وَيَنْبَغِي لِلْأَبِ أَنْ يُعْلِمَ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ أَوْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَجْحَدَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ زَوَالُ مِلْكِهِ إلَّا بِذَلِكَ قَوْلُهُ ‏(‏فَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ‏)‏؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا فَقَبَضَهُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ إنْ كَانَ يَعُولُهُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْقَابِضُ لَهُ أَخًا أَوْ عَمًّا أَوْ خَالًا فَالْقَبْضُ لِمَنْ يَعُولُهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا الْوَاهِبُ إلَى الصَّبِيِّ إنْ كَانَ يَعْقِلُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرَةِ هِبَةً وَلَهَا زَوْجٌ إنْ كَانَتْ قَدْ زُفَّتْ إلَيْهِ جَازَ قَبْضُهُ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُزَفَّ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا نَقَلَهَا مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا وَقَبْضُ الْهِبَةِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَلَكِنْ بِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ وِلَايَةُ الْأَبِ حَتَّى إذَا قَبَضَ لَهَا الْأَبُ صَحَّ‏.‏

وَإِنْ قَبَضَتْ هِيَ لِنَفْسِهَا صَحَّ إذَا كَانَتْ تَعْقِلُ وَيَمْلِكُ الزَّوْجُ الْقَبْضَ لَهَا مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَمَعَ حُضُورِ الْأَبِ لَا ضَرُورَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَتْ لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الْأَبِ وَلَا الزَّوْجِ عَلَيْهَا إلَّا بِإِذْنِهَا؛

لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةٌ فَقَبَضَهَا لَهُ وَلِيّه جَازَ‏)‏ وَهُوَ وَصِيُّ أَبِيهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّ جَدِّهِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي قَالَ فِي النِّهَايَةِ لَا يَجُوزُ قَبْضُ الْهِبَةِ لِلصَّغِيرِ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ أَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَقَارِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ يَعُولُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ‏)‏؛ لِأَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ فِيمَا تَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً قَوْلُهُ ‏(‏وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ‏)‏؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَهَذَا مَعَ عَدَمِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَجْنَبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَأَعْلَمَهَا وَأَبَانَهَا جَازَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ لِنَفْسِهِ جَازَ‏)‏ يَعْنِي إذَا كَانَ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ فِي حَقِّهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ وَهَبَ اثْنَانِ لِوَاحِدٍ دَارًا جَازَ‏)‏؛ لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَهُوَ قَبَضَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلَا شُيُوعَ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ وَهَبَهَا وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ‏.‏

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَصِحُّ‏)‏؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ وَهُوَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ لَا تَجُوزُ لَوْ قَسَّمَ وَسَلَّمَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ جَازَ‏.‏

وَقَالَ زُفَرُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ، وَإِنْ قَالَ وَهَبْتهَا لَكُمَا لِأَحَدِكُمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمَا‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ، وَإِنْ قَالَ وَهَبْتهَا مِنْكُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ‏.‏

وَأَمَّا إذَا وَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ شَيْئًا لَا يَنْقَسِمُ كَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجْمَاعًا هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْهِبَةِ‏.‏

وَأَمَّا الصَّدَقَةُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا جَازَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَنِيَّيْنِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا لَمْ يَجُزْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِلْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ كِلَاهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ

فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَقَالَ الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْهِبَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ وَالْهِبَةُ لِلْفَقِيرِ صَدَقَةٌ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ إذَا وَهَبَ مِنْ اثْنَيْنِ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ كَالصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ تَقَعُ لِوَاحِدٍ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ‏.‏

وَأَمَّا الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ‏)‏ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ‏{‏الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ‏}‏، وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ قَوْلُهُ ‏(‏إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا‏)‏ فَإِذَا عَوَّضَهُ سَقَطَ الرُّجُوعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ‏{‏الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ عَنْهَا‏}‏ أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهَا وَلِأَنَّهُ إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ بَدَلَهَا فَلَا يَرْجِعُ كَالْبَيْعِ وَيُعْتَبَرُ فِي الْعِوَضِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْهِبَةِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَعَدَمِ الْإِشَاعَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الْهِبَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا وَسَوَاءٌ دَفَعَ الْعِوَضَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَعْلَمُ الْوَاهِبُ أَنَّهُ عِوَضُ هِبَتِهِ بِأَنْ يَقُولَ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ مُكَافَأَةً عَنْهَا أَوْ بَدَلَهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا أَوْ مُجَازَاةً عَلَيْهَا أَوْ ثَوَابَهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِوَضٌ فِي هَذَا كُلِّهِ إذَا سَلَّمَهُ وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ أَمَّا لَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً وَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ هِبَتِهِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إذَا لَمْ يَحْدُثْ فِي الْمَوْهُوبِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَيْسَ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ سُقُوطُ الرُّجُوعِ، وَإِنْ عَوَّضَهُ عَنْ نِصْفِ الْهِبَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَلَا يَرْجِعُ فِي الَّذِي عَوَّضَهُ عَنْهُ، وَإِنْ عَوَّضَهُ بَعْضَ مَا وَهَبَ لَهُ عَنْ بَاقِيهَا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا كَمَا إذَا وَهَبَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَوَّضَهُ دِرْهَمًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا وَكَانَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي الْمِائَةِ‏.‏

وَكَذَا إذَا وَهَبَهُ دَارًا وَعَوَّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ زُفَرُ يَكُونُ عِوَضًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَدْ تَمَّ فِي الْهِبَةِ وَالْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ

وَسَائِرُ أَمْوَالِهِ تَصِحُّ عِوَضًا فَكَذَا هَذَا إلَّا أَنَّا نَقُولُ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ بِهَذَا لَمْ يَحْصُلْ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَهَبْ مِائَةً فِي تَحْصِيلِ دِرْهَمٍ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا كَانَتْ كُلُّهَا فِي يَدِهِ قَالَ فِي شَرْحِهِ إذَا وَهَبَ لَهُ جَارِيَتَيْنِ فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَوَّضَهُ الْوَلَدَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ مَا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ فَصَارَ ذَلِكَ عِوَضًا فَمُنِعَ الرُّجُوعُ قَوْلُهُ ‏(‏أَوْ يَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً‏)‏ بِأَنْ كَانَتْ جَارِيَةً هَزِيلَةً فَسَمِنَتْ أَوْ دَارًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ أَوْ قَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا فَإِنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعَقْدِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَبْلَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِزِيَادَةٍ لَمْ تَكُنْ مَوْهُوبَةً، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً حَامِلًا أَوْ بَهِيمَةً حَامِلًا فَرَجَعَ فِيهَا قَبْلَ الْوَضْعِ إنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُعْلَمُ فِيهَا زِيَادَةُ الْحَمْلِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا‏.‏

وَإِنْ وَهَبَ لَهُ بَيْضًا فَصَارَ فَرُّوخًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ تَحْبَلْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِوَطْئِهِ حُكْمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاهِبَ لَوْ كَانَ أَبًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَقَيَّدَ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا انْتَقَصَتْ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَرْشُ النُّقْصَانِ وَقَيَّدَ بِالْمُتَّصِلَةِ؛ لِأَنَّ فِي

الْمُنْفَصِلَةِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَمَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْأُمِّ لَا يَسْتَتْبِعُ الْوَلَدَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا دُونَ الْوَلَدِ وَلِأَنَّهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالثِّمَارِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ إذَا اسْتَغْنَى الْوَلَدُ عَنْهَا‏.‏

وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدًا فَاكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْكَسْبِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَقُطِعَتْ يَدُهَا وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ عَقْدُ الْهِبَةِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً عَجَمِيَّةً فَعَلَّمَهَا الْكَلَامَ وَالْكِتَابَةَ وَالْقُرْآنَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي قَاضِي خَانْ لَا يَرْجِعُ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَيْنِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا كَافِرًا فَأَسْلَمَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زِيَادَةٌ فِيهِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ وَصِيفًا فَشَبَّ وَكَبِرَ ثُمَّ صَارَ شَيْخًا فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ زَادَ سَقَطَ الرُّجُوعُ فَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ زَادَ الْمَوْهُوبُ زِيَادَةً فِي نَفْسِهِ تُورِثُ نُقْصَانًا فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَمَا إذَا طَالَ طُولًا فَاحِشًا يُنْقِصُهُ فِي ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِالْمَاءِ فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ كَمَا إذَا وَهَبَ لَهُ حِنْطَةً فَبَلَّهَا بِالْمَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لَهُ تُرَابًا فَبَلَّهُ بِالْمَاءِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ اسْمَ التُّرَابِ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبَلِّ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى طِينًا بِخِلَافِ السَّوِيقِ وَالْحِنْطَةِ

كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي سِعْرٍ لَمْ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا أَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّهَا فَكَذَا فِي نِصْفِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏أَوْ يَمُوتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ‏)‏؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا انْتَقَلَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ قَوْلُهُ ‏(‏أَوْ تُخْرَجَ الْهِبَةُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِهِ وَسَوَاءٌ أُخْرِجَتْ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا بَقِيَ دُونَ الزَّائِلِ، وَلَوْ وَهَبَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لِآخَرَ ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا‏)‏ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ حُرًّا أَمَّا إذَا وَهَبَ لِأَخِيهِ وَهُوَ عَبْدٌ فَقَبَضَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَحْصُلْ صِلَةً لِلرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا، وَإِنْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ وَقَبَضَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ وَعِنْدَهُمَا لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ فَصَارَ بِالرُّجُوعِ يَفْسَخُ مِلْكَ أَخِيهِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْهِبَةَ حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّيْءَ

يَنْتَقِلُ إلَى الْعَبْدِ أَوَّلًا ثُمَّ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ جِهَتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَبِلَهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْلَى صَحَّتْ، وَلَوْ رَدَّهَا الْعَبْدُ وَقَبِلَهَا الْمَوْلَى لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ بِيعَتْ فِي دَيْنِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْقَرَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا الْإِرْثُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى هَذَا وَقْتَ الْهِبَةِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ لَهُ الرُّجُوعَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فَكَذَا بَعْدَهُ، وَإِنْ أَبَانَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ فِي يَدِهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلرُّجُوعِ، وَإِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمٍ غَيْرِ رَحِمٍ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ لَهُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا مِنْهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا فَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ سَقَطَ الرُّجُوعُ‏)‏ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَضِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَاهِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَ الْعِوَضَ سَقَطَ الرُّجُوعُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَلَيْسَ لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيمَا تَبَرَّعَ بِهِ مِنْ الْعِوَضِ إذَا قَبَضَهُ الْوَاهِبُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ إسْقَاطُ حَقِّ الْوَاهِبِ مِنْ الرُّجُوعِ فَصَارَ كَالْهِبَةِ بِعِوَضٍ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ مُتَبَرِّعًا وَالْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ يُبْطِلُ الرُّجُوعَ بِأَنْ أَمَرَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالتَّعْوِيضِ فَعَوَّضَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَضْمَنَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قُلْنَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِتَعْوِيضِ الْمُتَبَرِّعِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِتَعْوِيضِ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُنَا مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَهِيَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا عَوَّضَ الْوَاهِبَ عَنْ هِبَتِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مَا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ صَرِيحًا بِأَنْ يَقُولَ عَوِّضْهُ عَنِّي عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ضَمَانِ الْآمِرِ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَا التَّعْوِيضَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ الرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ‏.‏

وَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ‏)‏؛

لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ الْعِوَضِ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ‏.‏

وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْهِبَةِ بَطَلَ فِي الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِالْعِوَضِ قَوْلُهُ ‏(‏وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَمْ يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ ثُمَّ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ‏)‏ إلَّا أَنْ يَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، وَقَالَ زُفَرُ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْعِوَضِ الْآخَرِ وَلَنَا أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْعِوَضِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ دَارًا فَعَوَّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا رَجَعَ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهُ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْمَوَانِعَ فِي قَوْلِهِ وَمَانِعٌ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَا صَاحِبِي حُرُوفُ دَمْعٍ خَزَقَهُ فَالدَّالُ الزِّيَادَةُ وَالْمِيمُ مَوْتُهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَالْعَيْنُ الْعِوَضُ وَالْخَاءُ الْخُرُوجُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالزَّايُ الزَّوْجِيَّةُ وَالْقَافُ الْقَرَابَةُ وَالْهَاءُ هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ‏.‏

‏(‏مَسْأَلَةٌ‏)‏ رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ تَمْرًا بِبَغْدَادَ فَحَمَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَى بَلْخِي فَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيهِ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا وَهَبَ لِرَجُلٍ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ تُرَدُّ الْهِبَةُ وَيَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْعَقْرُ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ ذَكَرَهُ فِي الْوَاقِعَاتِ أَيْضًا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِ الرَّاجِعِ فِي الْهِبَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَلَوْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ مَا طَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الْوَاهِبُ الْهِبَةَ بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ هَلَكَتْ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لِلْهِبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ فَإِذَا انْفَسَخَ عَقْدُهَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ وَلَا تُضْمَنُ إلَّا بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الْأَمَانَاتُ مِنْ التَّعَدِّي، وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ نَقَصَ أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَأَخَذَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَرْشَهُ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ وَلَا أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا مِنْ النُّقْصَانِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَبْدِ خَاصَّةً نَاقِصًا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ زِيَادَةٌ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الْفَسْخُ وَقَوْلُهُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا حَتَّى لَوْ وَهَبَ لَهُ ثَوْبًا فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ اخْتَلَسَهُ مِنْهُ الْوَاهِبُ وَاسْتَهْلَكَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ‏.‏

وَأَلْفَاظُ الرُّجُوعِ رَجَعْت فِي هِبَتِي أَوْ رَدَدْتهَا إلَى مِلْكِي أَوْ أَبْطَلْتهَا أَوْ نَقَضْتهَا فَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ بَاعَهَا أَوْ رَهَنَهَا أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ أَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا، وَكَذَا لَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ أَوْ خَلَطَ الطَّعَامَ بِطَعَامِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ ارْتَجَعْتهَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ

الْفُسُوخَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ إذَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ لِلْأَرْحَامِ وَشَبَهِهِ جَازَ ثُمَّ إذَا انْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ بِالتَّرَاضِي عَادَتْ إلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ وَالْقَبْضُ لَا يُعْتَبَرُ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ أَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ فَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ‏)‏؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يُوجِبْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَلَامَةَ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِلْكُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ كَمَا لَوْ وَرِثَهَا فَاسْتُحِقَّتْ لَمْ يَرْجِعْ فِي مَالِ الْوَارِثِ بِقِيمَتِهَا كَذَا هَذَا، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعِيرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ السَّلَامَةُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ اُعْتُبِرَ التَّقَابُضُ فِي الْعِوَضَيْنِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَمَا لَمْ يَتَقَابَضَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ وَيَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ يَعْنِي إذَا وَهَبَ لِلصَّغِيرِ هِبَةً فَعَوَّضَ الْأَبُ عَنْهَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ لَمْ يَجُزْ تَعْوِيضُهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُتَبَرِّعًا وَدَفْعُ مَالِ الصَّغِيرِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ لَا يَجُوزُ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ بَيْعٌ فِي الِانْتِهَاءِ فَاللَّفْظُ لَفْظُ الْهِبَةِ وَالْمَعْنَى مَعْنَى الْبَيْعِ فَقَوْلُهُ هِبَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْنِي إذَا كَانَ مُشَاعًا لَا يَجُوزُ وَلَا يَقَعُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَقَوْلُهُ بَيْعٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا تَقَابَضَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ‏.‏

وَقَالَ زُفَرُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً قَوْلُهُ ‏(‏فَإِذَا تَقَابَضَا صَحَّ الْعَقْدُ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ‏)‏، وَكَذَا يَرْجِعُ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً‏.‏

وَقَالَ زُفَرُ هُوَ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ التَّعْوِيضَ فِيهِ بِكَلِمَةِ عَلَى أَمَّا بِحَرْفِ الْبَاءِ بِأَنْ قَالَ وَهَبْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبِك هَذَا أَوْ بِأَلْفٍ وَقَبِلَ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً إجْمَاعًا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَالْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعَمَّرِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ‏)‏ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ عُمُرَهُ وَإِذَا مَاتَ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ‏.‏

وَفِي الْيَنَابِيعِ صُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ جَعَلْت دَارِي هَذِهِ لَك عُمُرِي أَوْ جَعَلْتهَا لَك عُمُرَك أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك فَإِذَا مِتّ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا هِبَةٌ وَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً اُعْتُبِرَ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْهِبَةِ وَيُبْطِلُهَا مَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ قَوْلُهُ ‏(‏وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ‏)‏ وَصُورَتُهَا أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ وَهِيَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ الِانْتِظَارُ وَمَعْنَاهَا إنْ مِتّ قَبْلَك فَهِيَ لَك، وَإِنْ مِتّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ فَإِذَا سَلَّمَهَا إلَيْهِ عَلَى هَذَا تَكُونُ عَارِيَّةً عِنْدَهُمَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا مَتَى شَاءَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَلَوْ قَالَ دَارِي رُقْبَى لَك أَوْ حَبِيسٌ لَك كَانَتْ عَارِيَّةً إجْمَاعًا وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً وَشَرَطَ فِيهَا شَرْطًا فَاسِدًا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ جَارِيَةً وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ أَنْ يَتَّخِذهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَا يُفْسِدُهُ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ‏.‏

وَفِي الْهِدَايَةِ الرَّهْنُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَاَلَّذِي يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّجْعَةُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَأْذُونِ وَعَزْلٌ لِوَكِيلِ فِي رِوَايَةِ الْخُجَنْدِيِّ وَاَلَّذِي لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْخُلْعُ وَالرَّهْنُ وَفِي رِوَايَةٍ وَالْهِبَةُ وَالْوِصَايَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْإِقَالَةُ وَإِذْنُ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ‏)‏ أَيْ صَحَّتْ فِي الْجَارِيَةِ وَالْوَلَدِ، وَإِنْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ، وَلَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهَا لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَيَقَعُ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ مَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ‏.‏

وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ إذَا عَقَدَ فِيهِ عَلَى الْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَالِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا وَصُورَتُهُ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْأُمَّ إلَّا وَلَدهَا لَمْ تَصِحَّ وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ لَك أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهَا وَإِذَا أَدَّيْت إلَيَّ النِّصْفَ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا قَوْلُهُ ‏(‏وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ‏)‏؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ‏)‏؛ لِأَنَّهَا كَالْهِبَةِ وَصُورَتُهُ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيَّيْنِ بِشَيْءٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَمْ يَجُزْ أَمَّا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرَيْنِ بِذَلِكَ جَازَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ‏)‏؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَمُلَ فِيهَا الثَّوَابُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِلْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ قَدْ حَصَلَ‏.‏

وَأَمَّا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَالْقِيَاسُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْعِوَضُ كَالْهِبَةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا، فَقَالُوا لَا رُجُوعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِالصَّدَقَةِ، وَلَوْ أَرَادَ الْهِبَةَ لَعَبَّرَ بِلَفْظِهَا وَلِأَنَّ الثَّوَابَ قَدْ يُطْلَبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ نِصَابٌ وَلَهُ عِيَالٌ لَا يَكْفِيهِ ذَلِكَ فَفِي الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ثَوَابٌ فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ‏)‏ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَمَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَمَلَّكُ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَكَذَا هَذَا‏.‏

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّذُورَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أُصُولِهَا فِي الْفُرُوضِ وَالْمَالُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فَرْضُ الصَّدَقَةِ هُوَ بَعْضُ مَا يَمْلِكُهُ بِدَلَالَةِ الزَّكَاةِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مِقْدَارِ النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا الْجِنْسَ دُونَ الْقَدْرِ وَلِهَذَا قَالُوا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْأَثَاثِ وَالْعَوَامِلِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ نَوَى بِهَذَا النَّذْرِ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي نَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ ثَمَرَةً عُشْرِيَّةً أَوْ غَلَّةً عُشْرِيَّةً تَصَدَّقَ بِهَا إجْمَاعًا‏.‏

قَوْلُهُ ‏(‏وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَمَلَّكُ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ وَيُرْوَى أَنَّهُ وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْقِيَاسُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَهِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَلَا تَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ، وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ ‏(‏وَيُقَالُ لَهُ أَمْسِكْ مِنْهُ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ مَالًا فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا قِيلَ لَهُ تَصَدَّقْ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكْت‏)‏؛ لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْحَالِ أَضْرَرْنَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى إيفَاءِ الْحَقَّيْنِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدِّرْ لِلَّذِي يُمْسِكُهُ قَدْرًا مَعْلُومًا لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذَا كَانَ ذَا حِرْفَةٍ أَمْسَكَ قُوتَ يَوْمِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَا غَلَّةٍ أَمْسَكَ قُوتَ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيْعَةٍ أَمْسَكَ قُوتَ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا أَمْسَكَ إلَى حِينِ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ‏.‏

‏(‏مَسْأَلَةٌ‏)‏ رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ هَبْ لِي هَذَا الشَّيْءَ، فَقَالَ وَهَبْته لَك، فَقَالَ قَبِلْت وَسَلَّمَ الْهِبَةَ جَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَضْرِبُونَ فِي طُنْبُورٍ، فَقَالَ لَهُمْ هَبُوا لِي هَذَا حَتَّى تَرَوْا كَيْفَ أَضْرِبُ فَدَفَعُوهُ إلَيْهِ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ فَكَسَرَهُ، وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ ضَرَبْت قَالُوا خَدَعْتنَا أَيُّهَا الشَّيْخُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ‏.‏

‏(‏مَسَائِلُ‏)‏ مِنْ الْوَاقِعَاتِ وَغَيْرِهَا رَجُلٌ بَعَثَ إلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ فِي إنَاءٍ أَوْ فِي ظَرْفٍ هَلْ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ‏؟‏ إنْ كَانَ ثَرِيدًا أَوْ نَحْوَهُ يُبَاحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا حَوَّلَهُ إلَى إنَاءٍ آخَرَ ذَهَبَتْ لَذَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ فَاكِهَةً أَوْ نَحْوَهَا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا انْبِسَاطٌ يُبَاحُ لَهُ أَيْضًا وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ إذَا بَعَثَ بِهَا فِي ظَرْفٍ أَوْ إنَاءٍ مِنْ الْعَادَةِ رَدُّهُمَا لَمْ يَمْلِكْهُمَا كَالْقِصَاعِ وَالْجِرَابِ وَشَبَهِ ذَلِكَ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْكُلَهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَادَةِ أَنْ لَا يُرَدَّ الظَّرْفُ كَقَوَاصِرِ التَّمْرِ مَلَكَ الظَّرْفَ وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ‏.‏

رَجُلٌ كَتَبَ إلَى آخَرَ كِتَابًا وَذَكَرَ فِيهِ اُكْتُبْ الْجَوَابَ عَلَى ظَهْرِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَإِلَّا مَلَكَهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عُرْفًا رَجُلٌ دَعَا قَوْمًا عَلَى طَعَامٍ وَفَرَّقَهُمْ عَلَى أَخْوِنَةٍ لَيْسَ لِأَهْلِ خِوَانٍ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ خِوَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ خِوَانَهُمْ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَيْسَ لِأَهْلِ خِوَانٍ أَنْ يُنَاوِلُوا أَهْلُ خِوَانٍ آخَرَ مِنْ طَعَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ خَاصَّةً فَإِنْ نَاوَلُوهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ رَجُلٌ كَانَ ضَيْفًا عِنْدَ إنْسَانٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ سَائِلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الْخَدَمِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَائِدَةِ وَلَا هِرَّةً لِغَيْرِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَإِنْ كَانَتْ هِرَّةَ صَاحِبِ الْبَيْتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ كَلْبٌ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ فِيهِ عَادَةً فَإِنْ نَاوَلَهُ الْخُبْزَ الْمُحْتَرِقَ وَسِعَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِذْنَ عَادَةً‏.‏

رَجُلٌ مَاتَ فَبَعَثَ رَجُلٌ إلَى ابْنِهِ بِثَوْبٍ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ هَلْ يَمْلِكُهُ الِابْنُ حَتَّى يَكُون لَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهِ وَيُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِتَكْفِينِهِ لِفِقْهٍ أَوْ وَرَعٍ فَإِنَّ الِابْنَ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ كَفَّنَهُ فِي غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ لِلِابْنِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ الْمُبْرِئُ مِنْ الدَّيْنِ إذَا سَكَتَ جَازَ، وَإِنْ قَالَ لَا أَقْبَلُ بَطَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏